تعد المياه العنصر الرئيس للحياة، بهذا نشأت الحياة ووجد الإنسان الأول بالقرب من ينابيع المياه، وبدأ الإنسان بتخزين المياه والمحافظة عليها وإدارتها وتوزيعها، وتطورت واختلفت أساليب هندسة المياه، وطرق إيصالها من مصادرها للمنشآت السكنية والزراعية والصناعية، كما تعددت أساليب وطرق حفظ هذه المياه، كما تعددت واختلفت أساليب وطرق حماية القرى، والمدن، والمنشآت المختلفة من خطر المياه، أثناء الفيضانات في فصل هطول الأمطار.
ا.د. زيدون المحيسن
قبل الحديث عن الهندسة المائية عند الأنباط، تجد الإشارة الى لمحة مختصرة عن جيولوجية ومناخ الأردن، لما فيها من ارتباط مباشر، بموضوع المياه عند الأنباط، وعند غيرهم، من الشعوب التي عاشت في الأردن. يُشكل الأردن مظهراً تضاريسياً مهماً ومتميزاً، بسبب تعاقب مجموعة من العصور الجيولوجية والمناخية عليه، مما كان لهما الأثر الكبير على طبيعته الطوبغرافية حيث لا زالت الدراسات الجيولوجية لمعظم مناطق الأردن في بدايتها بالرغم من أهميتها، وتركزت الدراسات على جيولوجية المياه أو الجيومورفولوجية، وتعتبر الدراسات، الجيولوجية التي قام بها بوم وصوان من أحدث وأهم الدراسات، التي تركزت على جيولوجية الأردن، وبخاصة في مناطقه الشمالية الشرقية، حيث تم التعرف على ست مراحل بازلتية متتابعه، على شكل براكين، بين فترة عصري الأوليجوسين، والميوسين، الى عصر الهولوسين، وتعتبر المراحل البازلتية الثلاث الأولى الأقدم، وكشف عنها في مناطق وادي الضليل شمال شرق عمان، أثناء البحث عن المياه الجوفية فيها، أما المراحل البازلتية الثلاث الأخرى، فقد تكونت في فترات لاحقة، ظهرت بعضها على السطح في مناطق اليرموك، بين المخيبة ومصب نهر اليرموك، وفي مناطق شرق المفرق.
تحتاج الدراسات المناخية في الأردن، وخاصة خلال العصر الجيولوجي الثالث والرابع، لمزيد من الدراسة التفصيلية الدقيقة، اذ إن المناخ القاري وشبه القاري كان سائداً في معظم العصور الجيولوجية، ولمدة استمرت من العصر ما قبل الكامبري وحتى منتصف العصر الكريتاسي، وقد تم التعرف على هذه الفترة من ترسبات الصخر الرملي النوبي في الأردن، في فترة العصرالجيولوجي الثالث، عندما كان البحر يغطي مساحات واسعة من الأردن وكانت الفترات المطيرة قليلة، تخللها مناخ قاري وشبه قاري، لكن كشفت الدراسات البيئية الحديثة، ان تغيرات مناخية مهمة طرأت على معظم المناطق الشمالية البعيدة عن خط الاستواء وتميزت التغيرات المناخية تلك بوجود مناخين رئيسين، الأول سمي بالفترة الجليدية الباردة جداً، وذات الأمطار القليلة، والثانية فترة رطبة دافئة، امتازت بالإمطار الغزيرة في منطقة بلاد الشام، وقسمت الفترات المناخية تلك، لتقسيمات مناخية متعددة، لا داعي للخوض في تفصيلها، وما يهمنا هو التشكيلات الطبوغرافية والمناخية، التي ظهرت في مناطق الأردن، في عصر البلايستوسين القديم، حيث تشكلت البحيرات العذبة في وادي الأردن، وتكونت الترسبات في منطقة لسان وادي الأردن، ومن ثم تشكل الوضع الحالي لنهر الأردن والبحر الميت كما ظهرت تشكيلات أخرى مهمة في الأردن، كوجود بحيرة السمراء، وترسب التربة الحمراء الخصبة، والتي ساعدت على وجود منطقة ذات نباتات كثيفة، بسبب الرطوبة العالية وكثافة الأمطار كما ان بعضاً من فترات الجفاف،سادت أيضاً في عصر البلايستوسين، وبخاصة في المناطق الصحراوية، التي قد تكون أكثر دفئاً وجفافاً من الوقت الحاضر، بناء على دراسة رخويات تلك الفترات.
كما أمكن التعرف على فترات الجفاف تلك، من تشكل كل من لسان البحر الميت، وحوض الجفر. ويظهر ان المناخ الحالي السائد في الأردن، يشبه المناخ السائد في فترة البلايستوسين المتقدمة، حيث امتازت المنطقة الجنوبية بالجفاف وارتفاع درجات الحرارة، وامتازت المنطقة الشمالية بالإعتدال وكثافة الأمطار، وكانت مناطق البحر الميت من المناطق الجافة قليلة الأمطار ويذكر الباحثون والدارسون، أنه منذ حوالي خمسة عشر ألف سنة، ساد مناخ جاف بشكل عام، وأصبحت التقلبات الجوية بسيطة وأقرب للإستقرار وتمسك بعض الدارسين، بنظرية التغير الملموس على المناخ في منطقتنا، منذ أربعة ألاف عام، معتمدين بذلك على تناقص كميات الأمطار، وارتفاع درجات الحرارة والجفاف لكن ترجح مجموعة من المختصين في حقل الهندسة الزراعية، بأنه لم يطرأ تغير على كميات سقوط الأمطار، منذ حوالي خمسة آلاف عام. ونتيجة للدراسات التي نقوم بها في موضوعات المياه، والري، فإننا نستطيع القول بأنه منذ ألفي عام، لم يطرأ أي تغير يذكر على المناخ، ولكن المشكلة التي نواجهها هنا هو الزحف الصحراوي، الذي كان الإنسان أحد أسبابه المباشرة، وذلك من خلال القضاء على مساحات واسعة من الثروة النباتية عن طريق قطع الأشجار، وحرقها، وعدم العناية بزراعة أشجار جديدة وبديلة، ولا تزال هذه المشكلة في تزايد مضطرد، كما الإعتماد على تربية الماشية، وخاصة الماعز، كان له الأثر السيء على الثروة النباتية في الأردن.
وهناك مجموعة من العوامل الطبيعية، التي ساهمت في جعل الأردن، وبخاصة المنطقة الجنوبية منه، منطقة قليلة الأمطار، حيث ان تضاريس المنطقة، وبالتحديد المناطق الشرقية، تمتاز بالإستواء، كما أن بعدها عن البحر المتوسط، جعل الأمطار المحلية دائمة التغير، وتتذبذب من سنة لأخرى، ومن فصل لآخر، وتسقط هذه الأمطار على منطقة دون أخرى، وتكون أحياناً أمطارا غزيرة، وأحياناً أخرى شحيحة.
يعد الأردن من المناطق الفقيرة في الموارد المائية السطحية، فلا توجد بحيرات أو أنهار سوى نهر الأردن، الذي يستغل جزء قليل منه في الوقت الحاضر، لذلك كان الإعتماد بالدرجة الأولى على مياه الأمطار، مما جعل بالتالي عملية الحفاظ على هذه المياه، والسيطرة عليها، والإستفادة منها، شغل الإنسان الشاغل في الأردن، منذ العصور القديمة ولغاية الوقت الحالي، حيث بدأ الإنسان القديم، بالاستيطان قرب مواقع عيون المياه، كموقع الفجيج في الشمال الشرقي من قلعة الشوبك في جنوب الأردن، وعين الأسد في جنوب الأزرق، ووادي الحمة في الأغوار الشمالية...الخ، ومع مرور الزمن، وازدياد عدد السكان في الأردن، اقتضت الحاجة لتطوير أساليب جمع مياه الأمطار كالتي وجدت في منطقة جاوه في الصحراء الشرقية، والتي يعود تاريخها الى الألف الرابع قبل الميلاد، وكانت مياه الأمطار هي المصدر الرئيس للمياه في هذا الموقع، حيث تمت الإستفادة من هذه المياه عن طريق بناء جدران، تعمل على تحويل مجاري المياه، من منطقة وادي راجل القديمة، عن طريق قناة رئيسة، تتفرع الى شبكة من قنوات المياه، استعمل بعضها للشرب، وبعضها لري الأراضي الزراعية، كما أنشئت مجموعة من البرك والمجمعات المائية، التي كانت تستعمل لسقاية الحيوانات داخل الحقول الزراعية.
وتطورت أساليب جمع المياه والزراعة في الفترات اللاحقة، وقد بَرعَ الأنباط العرب وتميزوا، في ابتكار أساليب متطورة وجديدة في هندسة المياه، وبناء السدود والقنوات، والخزانات، والآبار، والبرك(.
كما طوروا أساليب الري والزراعة، ولم يقتصر اهتمام الأنباط على التجارة، والعمارة، والنحت فحسب وإنما اشتهر دورهم في التجارة، وحماية الطرق التجارية، واتهمهم البعض بالبداوة، وحب السيطرة، دون الإشارة بشكل مفصل لدورهم الرئيس في البناء، والعمارة، والنحت، والتي عزوها الى أصول قديمة ومعاصرة للأنباط، وغاب عن ذهنهم ان هذه الأساليب، في غالبيتها نبطية الأصل، عربية الجذور تأثرت بعضها سواء المبني منها أو المنحوت بأصول معمارية فنية مختلفة، مما يدل على كثرة اطلاع الأنباط على الأساليب المعمارية الأخرى المختلفة، لحبهم للسفر، والمغامرة، والتجارة.
يشغل الأنباط مكانة متميزة بين مختلف الشعوب القديمة في الشرق الأدنى، وإذ كان غناهم يرتكز على تجارة القوافل، فإن انتشار حضاراتهم حتى مطلع عصرنا الحالي، يعود بشكل خاص لمهارتهم في التقنية المائية.
وبناءً على ما سلف فقد برع الأنباط في الزراعة وواجهوا مشكلتين، كانتا من الممكن ان تعطلا أي عملية زراعة وإنتاج، وذلك لأن معظم الأراضي المتوفرة لديهم، غير صالحة للزراعة، وكذلك قلة الأمطار الموسمية، ومن الصحيح انه في البداية كانت عملية الزراعة والفلاحة قليلة، ولكنهم عملوا على تطويرها وتقدمها، وأصبحت من أهم حرفهم، للحصول على طعامهم، وهذا يمثل أهمية الزراعة عند الأنباط، فالزراعة هي المصدر الرئيس للحصول على الطعام وتأمينه.
اتجه الأنباط نحو الزراعة والاهتمام بها، للحصول على حاجاتهم الغذائية، بسبب الأعداد المتزايدة من السكان، ولم يعملوا فقط في أراضي أدوم ومؤآب الخصبة، بل زرعوا في كل زاوية أو ركن أو شق متاح، وكانت عاصمتهم البتراء، أكثر من مجرد مدينة للقوافل التجارية، حيث كانت مركزاً لمنطقة زراعية، وقد وصل الأنباط لمرحلة متقدمة من الأنماط الزراعية، وصلت لأعلى درجات التطور بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الثاني الميلادي، وتعلموا السيطرة على الأراضي القاحلة، وعملوا على إيجاد مستقرات دائمة، حتى في وادي عربة وتوسعوا حتى النقب.
وهكذا فإن الأنباط كانوا بارعين في الزراعة، ولم يصل أحد لما وصلوا إليه، من القيام بالزراعة في الصحراء، ودفع حدود الزراعة لمناطق الأراضي الصحراوية، ولم يستطع أحد من قبلهم السيطرة بنجاح على المياه وتخزينها.
وقد استخدم الأنباط أنظمة مختلفة، في مجال محاولتهم تطوير الزراعة، فالنظام الأول الذي استخدموه هو نظام المصاطب (Terracing)، ويعلق هموند على هذا النظام بقوله، ان نظام المصاطب يعمل على إبطاء سيلان مياه الأمطار، عندما ينحدر الماء فوق هذه المصاطب، فإن كروم العنب والنباتات المزروعة تقوم بامتصاص الرطوبة، وهذا النمط لا يزال ظاهراً في منطقة الجي وبراق وعيلمون بالقرب من البتراء، وفي هذا النظام كان يتم توجيه هذه المياه، حيث كان يتم إبطاء نزول المياه من خلال هذه المدرجات، حيث ان جزءا من هذه المياه يتسرب لداخل الأرض في كل مصطبه، وتقوم المصاطب بتوضيع التربة المنجرفة، والبقايا العضوية. وهناك أسلوب آخر للسيطرة على انجراف التربة، حيث كانت تتم زراعة النباتات على هذه المصاطب، وعن هذا الطريق قام الأنباط بتوسيع الرقعة الزراعية في الصحراء، أكثر من أي إنسان آخر في هذا العالم، وترك الأنباط لنا وثائق تبين نجاحهم الذي وصلوا إليه، في الزراعة واعتماداً على هذه الوثائق، فإن المزارعين الأنباط بين حوالي القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الثاني الميلادي، أنتجوا القمح والشعير، وايضاً أنواعاً أخرى من الحبوب، أضافة لزراعة الزيتون والبلسم والكروم.
هكذا نرى ان نجاح الأنباط، ووصولهم لهذه الدرجة من التطور، في الناحية الزراعية، يعود لنجاحهم في السيطرة على المياه وحفظها، وكذلك قدرتهم على استعمال المصادر الطبيعية المتوفرة وتحويلها الى مصلحتهم.
واستطاع الأنباط السيطرة على مياه الأمطار الموسمية، والأمطار القليلة، وتعلموا وأدركوا أهمية الإستفادة مما يحصلوا عليه من أمطار قليلة، وكانوا مدفوعين بهدف الإستمرار في الحياة، بالرغم من الظروف الطبيعية المحيطة بهم وتحت الظروف القاسية، وعرفوا كيف يستغلون الطبيعة. ومن أهم الأدلة على قدرة الأنباط في مجال الحفاظ علي المياه، هو أن صهاريج وأحواض المياه ما زالت مستعملة حتى اليوم، وكان هناك نوعان من هذه الأنظمة، الأول هو الذي يقوم على أساس تجميع المياه وتقنيتها للمناطق المختارة، وفي المرحلة الثانية كان يتم خزن الزائد لاستعماله في وقت الحاجة، أما النظام الثاني فهو ما يعرف بتليلات العنب، وهو عبارة عن رجوم من حجارة تصف على سفوح التلال، في أنماط متداخلة لها دور في نظام التحكم بالماء، وهذا التطور في الهندسة المائية أدى للتوسع الزراعي.
إن الجزء الأعظم من التلال في الأراضي النبطية، كانت مغطاة بالقنوات المصنوعة من الحجارة، وتم بناؤها فوق الجبال والمرتفعات حيث أن المياه يمكن أن تنحدر من هذه القنوات، للأحواض الموجودة في الأسفل، وكانت النتيجة أنهم لم يعانوا من نقص في المياه، وكذلك فإن التاريخ يشير الى أن الماء كان متوفراً عندهم بصورة كبيرة وكانت تزود القوافل التجارية والمسافرين بالمياه.
وما يهمنا في هذا الجانب، هو براعة الأنباط في تطوير وابتكار أساليب مائية وزراعية مهمة، بخاصة في مجال هندسة جمع مياه الأمطار، في المناطق الصحراوية والجافة، التي كانت تنتشر في مناطق مختلفة من المملكة النبطية، وبخاصة في فترة ازدهار هذه المملكة، وبالتحديد القرنين الثاني والأول قبل الميلاد والأول والثاني الميلادي، عندما توسعت رقعة مملكتهم، وأصبحت هناك زيادة في نسبة السكان، وتوسعت المدن والقرى النبطية، وتعددت المحطات التجارية، مما دفعهم للمحافظة على كل قطرة ماء، عن طريق بناء ونحت السدود، والخزانات، والآبار، والقنوات، وكانت طبيعة الموقع الجغرافي للمناطق النبطية، حافزاً لهم لإبتكار أساليب مختلفة، لجمع مياه الأمطار، واستعمالها لأغراض الشرب، والري، والزراعة، بخاصة في منطقة قليلة الموارد المائية، وتعتمد بالدرجة الأولى على مياه الأمطار، كما في مناطق البتراء، وبيضا، ووادي رم، ومناطق صحراء النقب، وأم الجمال، وكانت السلطة المركزية ترعى النظم المائية والزراعية بشكل دائم، وتهتم بتوزيع المياه والمحافظة عليه، وتعمل على تقسيم الأراضي الزراعية وريها، كما برع الأنباط في هندسة حفظ المدن والقرى والمنشآت المختلفة، وحفظ التربة، والأراضي الزراعية، من خطر الإنجرافات عند حدوث الفيضانات في أوقات هطول الأمطار، يمكن استصلاحها بقليل من التكاليف في الوقت الحاضر، للإستفادة من مياهها في وقت نحن في أمس الحاجة فيه للمياه.