المهندس سمير حباشنة
نحن روح تسكن بجسدين.
لاحاجة لاستحضار التاريخ كشاهد على ان العلاقة بين فلسطين والاردن راسخه.
أنها حالة تاريخية وحضارية واحدة.
تداخل ديموغرافي وجغرافي ممتد ، كل ذلك حتى قبل بزوغ فجر الاسلام والمسيحية فالتاريخ شاهد موثوق ، و وقائعه ثابته بهذا الشأن.
- وحتى نضع العواطف والاشواق جانباً سوف نحاكي التاريخ المعاصر ، الذي يُنبِئُنا.. ان وحدة الضفتين التي صاغها جيل الآباء في مطلع خمسينات القرن الماضي كانت ناجحة بكل المقاييس :
1) لانها فعل وحدوي ، أدى بعودة الامور الى « الاصل « ، فالاردنيون والفلسطينيون ، عرب اقحاح ، لا لبس لديهم في مفهوم الهوية ، و كانوا على الدوام فعالون في الحياة العربية ، دعاة وحدة ، وطليعون بالعمل من أجلها ، وكانوا في مقدمة ركب الحركة القومية ، التي بلورت الهوية العربية وتمايزها و تصديها لمؤامرة التتريك التي نشات في نهايات الامبراطورية العثمانية ، وقد شهدت المؤتمرات السورية و الحركات السياسية التي تسعى الى الاستقلال والوحدة حضوراً متميزاً لابناء الاردن و فلسطين.
2) كما أن بلادهم والتي تمثل الجزء الجنوبي من سوريا الكبرى، فأن التقسيمات الادارية طوال الحقبة الايوبية والمملوكية والعثمانية ، إنما هي تقسيمات لم تكن تشير الى جغرافية الاردن وفلسطين كما هي عليه الآن ، وعلى سبيل المثال ، فالكرك وفق ذلك كان يمكن ان تتبع الى طبريا ، ونابلس كان يمكن ان تكون تابعة للسلط بل وأن الكثير من خرائط القرون الوسطى تشير الى أن « جند « الاردن هو المنطقة الجغرافية التي تضم الشمالين الاردني والفلسطيني بالتقسيم المعاصر ، حتى مصب نهر الاردن في البحر الميت. وبالمقابل فأن « جند « فلسطين يضم الجنوبيين الاردني والفلسطيني بالتقسيم المعاصر أيضاً.
3) لقد توفر لوحدة الضفتين جيلا من قادة و نُخب آمنوا بها وصاغوها على نحو يحمل بمضمونه عوامل الديمومة و الترسخ ، فالوحدة الاردنية الفلسطينية دون النظر الى بعض الهواجس والتخرصات ، كانت عادلة من حيث التمثيل في مؤسسات الدولة ، الحكومة والبرلمان بشقيه النواب و الاعيان و في كل مواقع الادارة ، بما فيها الجيش بفروعه واختصاصاته المختلفة.كما إن دولة الوحدة لم تُسقط طموحات أبناء الشعب الواحد ، بالكفاح من أجل استرجاع الجزء المحتل من وطننا « فلسطين « وذلك واضح في دستور الدولة وفي الخطاب الاستراتيجي السياسي المعلن لها. ونذكُر الخارطة الرسمية « للمملكة « التي كانت حدودها الغربية تصل الى البحر المتوسط.
4) وأن وحدة الضفتين لم تكن الحاقيه كما هو في أدبيات بعض القيادات الفكرية و السياسية في الاردن و فلسطين، ذلك ان ما كان لها ان تنفك ابداً لو بقيت الامور تسير بشكل طبيعي. ذلك أن انفكاكها سياسياً كان بفعل الاحتلال ، ودلالة نجاحها انها حتى ورغم مرور عقود على الانفكاك القسري، لا زالت اواصر الاردنيين والفلسطينيين الاجتماعية و الثقافية والنفسية وحتى السياسية تتعمق يوماً بعد يوم.
5) كما أن وحدة الضفتين لم تكن عائقاً بين الشعب الفلسطيني واشواقه في إبراز كينونته كهوية وكوجود سياسي ، وما يؤكد ذلك ، ان م.ت.ف. ، فقد شهدت القدس في ظلال دولة الوحدة ، وبرعاية رسمية وبترحيب شعبي كبير ، وكانت م.ت.ف. ستكون عنصر تقوية اضافي للوحدة ،لو أن تركيبتها بقيت كما كان اعلانها الاول ، بوجود شخصيات اردنية في لجنتها التنفيذية وهيئاتها القيادية الاخرى ، فقد كان الوضع سيكون أكثرُ تماسُكاً وإستقراراً ، وكان سيجنب العلاقة الاردنية الفلسطينية بعض مراحل « الجزر « المؤسفة التي مرت بها ، وبالتالي كان سيكون للاردنيين والفلسطينيين دولتهم « المملكة « ، ويكون لهم معاً ذراعهم الكفاحي لإسترجاع الارض « م. ت. ف. «
( * ) شارك في أول لجنة تنفيذية المرحوم نجيب رشدات و المرحوم على الحياري ، الاول كرئيس للدائرة السياسية ، والثاني كرئيس للدائرة العسكرية.
6) وعلينا أن نعترف بأن صياغة الوحدة بين الضفتين، قد وقعت بخطأ شكلي كان له تبعاته السلبية لاحقاً حين لم يتم ذكر فلسطين بإسم الدولة فقد كان يجب أن تكون « المملكة الاردنية الفلسطينية الهاشمية «. ذلك أن إسقاط اسم فلسطين من عنوان الدولة ، شكّل على الدوام مرارة في نفوس النخُب الفلسطينية ، بل و أُستغل هذا الامر من دعاة الانفصال وعزز من خطابهم التشكيكي بالوحدة وسلامة مراميها.
الوضع الراهن.. تصورات مستقبلية..
أن العلاقة الاردنية الفلسطينية بوضعها الراهن بمستواها الشعبي، هي علاقة متجذرة متجدده بالمعنى الايجابي ، فالبناء الديموغرافي الاردني الفلسطيني – يزداد توحداً ، ملايين الاردنيين اليوم هنا يحملون جيناً خليطاً « أردني فلسطيني « والبناء الثقافي يكاد يكون واحداً ، حتى التطلعات والنظر الى المستقبل ، هو من زاوية واحدة ، ونحو جهة واحدة ايضا ، يتبعه بناء مادي موحد ومندمج غير قابل للانفصام ، فالعلاقات بين الضفتين وبرغم من محاولات الاحتلال ، تعزيز الفرقة والتباعد ، فأن تلك العلاقات تزداد تماسكاً ، وعلى كل الصُعد ، كما ان الوحدة الوطنية داخل الدولة الاردنية ، سليمة وتشهد إندماجاً و ولاء مطلقاً للدولة ، والحرص على أمنها و أستقرارها و تطورها. و أن ما نشهد من ظواهر غير صحية بأحيان متباعدة ، هي في الحقيقة في مستوى المنسوب المسموح به ، والذي يماثل أو يقل ، عن أي منسوب من الخلافات في أي دولة بين مناطقها أو أعراقها المختلفة.
- إذا نحن أمام واقع ببناء مادي معنوي إجتماعي واحد وتطلعات مستقبلية واحدة أيضاً...
• و أن ما يعزز ذلك ويدفع تلك العلاقات قُدماً ، أن الاطارات الرسمية الاردنية الفلسطينية تمكنت خلال العقدين الاخيرين أن تتخلص من كل ذرات الهواجس التي كانت تبينُ في مٌناخ تلك العلاقة فلا تزاحم ولا أجندات غير معلنة. فالاردن الرسمي و الشعبي يتبنى الموقف الفلسطيني بكليته وذلك بقيام دولة فلسطينية كاملة السيادة ، على خطوط الرابع من حزيران (67) و عاصمتها القدس الشرقية. وان السياسه الاردنية الداخلية والخارجية مبنية على هذا العنوان ، وان اللقاء الاردني الفلسطيني « دولتين فدرالية وكونفدرالية « ، انما هو خيار الاردنيين و الفلسطينيين ، الذي ياتي في وقته ، عند أندحار الاحتلال و قيام الدولة المستقلة ذات السيادة بما فيها القدس، وليس قبل ذلك بالتاكيد، لأن الحديث الآن في هذا الأمر إنما يبدو و كأنه التفاف على المشروع الفلسطيني، و كأنه اعفاء للاحتلال من أستحقاقات السلام وعلى رأسها الانسحاب الكامل وازالة المستوطنات ، و ممارسة الشعب الفلسطيني حقه بالعودة الى ترابه الوطني. إضافة الى إنعدام إمكانية تحققه، فالإطار الوحدوي، لابد من أن يتوفر له وحدتين سياسيتين واضحتين ، وهو المتعذر حالياً قبل زوال الاحتلال.
• مع ذلك فأنني و غيري كثيرون هنا في الاردن وهناك في فلسطين، نحمل إعتقاداً راسخاً مبنياً على كل ما ورد من حقائق ، أن الحالة الاردنية الفلسطينية المندمجة في الواقع « كليا « لن تُفضي في المستقبل أي بعد قيام الدولة ، الا الى مستقبل سياسي بإطار واحد، يحفظ هوية الشعبين ،ويقوم على اسس عادلة.
- والان في ظل مناخات العلاقة الاردنية الفلسطينية الممتلئة بالاوكسجين فأنني أدعو الى:
• تنسيق سياسي دبلوماسي مكثف حد « التماهي « بين القيادتين و الحكومتين الاردنية و الفلسطينية ، فالاردن و فلسطين على الصعيدين الرسمي والشعبي يحملان نفس الخطاب ولهما نفس الاهداف ، وهذا يتطلب بالضرورة مد جسور التواصل بين النُخب هنا وفي فلسطين ، وهو مطلب ملح و ضروري ، حيث ارى ان لقاء نُخبنا على ضفتي النهر المقدس ضعيف جداً ، وان من شأن ذلك التباعد غير المبرر، ان يؤدي بعوامل اللقاء وما اكثرها أن تتوارى ، خصوصا في عقول الاجيال الجديدة التي لم تعش دفء وحدتنا ، وتخضع في كثير من الاحيان الى تفسيرات خاطئة لوحدة الضفتين بدءاً من دوافع إنشاءها مروراً بمساراتها و مسلكياتها تجاه مواطنيها..
• وانني ادعو المجتمع المدني الاردني من احزاب ونُخب الى محاولة رأب الصدع في الجسم الفلسطيني ، فنحن الاقرب و الاكثر معرفة بتفاصيل الخلاف، بل و اكثر معرفة باطرافه ، ذلك ان امتدادتهم في الاردن كبيرة وحاضرة في حياتنا السياسية ، كما ان للاردن مصلحة وطنية مباشرة في إنهاء الانقسام ، لأن ذلك من شأنه ان يقوي فلسطين امام التحديات ، وذلك بحد ذاته عامل قوة للاردن.
• كما يجب ان علينا أن نرفع معا الصوت عاليا على المستوى العربي ، فلا يجوز ان يتم اللعب على خلافات الشعب الفلسطيني وتوظيفها لخدمة هذا البلد أو ذلك و ان لا يٌترك الشعب العربي الفلسطيني وحيداً دونما مساندة مادية.. عدا أن المساندة المعنوية بدأت تضعف خصوصاً بما نشهده اليوم من تدافع عربي على إعادة صياغة تحالفات ومراجعة المفاهيم دون أن تؤُخذ القضية الفلسطينية بعين الاعتبار كقضية مركزية للامة العربية.
- خلاصة: إن عوامل الجمع واللقاء كثيرة وتزداد صلابة ، وهي عوامل وحقائق تمكنت من إخضاع السياسة من قبل... ولا زالت قادرة على ذلك ، ان اخذت نٌخبنا وطلائعنا دورها المأمول في تحقيق ذلك.
• ملاحظة: المحاضرة التي اُلقيت في مركز القدس في عمان بعنوان سيناريوهات العلاقة الاردنية الفلسطينية .