سياسات الإنفاق على التعليم العالي ومآلاتها
إعداد: د. فـايز خصـاونـة
لقد كان الإنفاق الأهلي والحكومي على التعليم الجامعي في الأردن عند إنشاء الجامعة الأردنية متواضعا جدا في بداياته، ثم مالبث أن تزايد مع التوسع في الكليات والتخصصات التي أنشأت لتلبية حاجة المجتمع لها، وتزايد أكثر مع التوسع في عدد الجامعات الحكومية ثم الخاصة تماشيا مع تزايد عدد الطلبة الراغبين بالالتحاق بالتعليم الجامعي وتماشيا مع الزيادة السكانية. وبعد مرور ستة عقود ونصف، نجد أن الإنفاق على التعليم العالي قد تطور كما ونوعا من حيث مواقعه ومصادره وأبوابه ومردوده والمنتفعون منه. وقد بينت في الحلقة الأولى من هذه السلسلة ما آلت إليه الأمورفي الفترة الأخيرة، وتحديدا لغاية عام 2106 حيث تتوفر لنا معلومات شبه كاملة عن هذا الموضوع.
موجز تاريخي حول سياسات تمويل التعليم العالي في الأردن.
ولأن الإنفاق محكوم بسياسات وقواعد تبنى عليها القوانين وسائر التشريعات الناظمة لهذا الأمر، فإني أجد من المناسب بداية أن أعرج على السياسات التي حكمت الإنفاق على التعليم العالي بعيد إنشاء الجامعة الأردنية ولغاية أوائل عقد التسعينات من القرن الماضي عندما سُمح بإنشاء الجامعات الخاصة. فقد كانت إيرادات الجامعات (وكلها كانت حكومية) تتكون من ثلاثة مصادر رئيسة: الرسوم الجامعية وضريبة الجامعة وحصة الجامعات من العوائد الجمركية، وكان المصدران الأخيران ينفذان بموجب نصوص قانونية، وكانت تجبى عوائدهما كأمانات لدى وزارة المالية وتحول إلى الجامعات مباشرة ثم لاحقا من خلال وزارة التعليم العالي. المهم في هذا السرد الموجز أن سياسات تمويل التعليم العالي كانت مستقرة على قواعد متينة بقوة القانون مفادها أن تمويل التعليم العالي يتم بمشاركة عادلة بين الطلبة والدولة: الطلبة بالرسوم الجامعية والدولة بعوائد الضرائب والجمارك، بحيث تراوحت الرسوم الجامعية بين ثلث إلى نصف كلفة التعليم. ومع بداية التسعينيات، تعرضت هذه الشراكة إلى انقلاب في قواعدها. فقد أصبحت تلك العوائد تحقق مبالغ كبيرة لدرجة أنها صارت مغرية لضمها لإيرادات الخزينة العامة بدلا من أن تكون إيرادات مخصصة حصريا للجامعات. وهكذا كان. فسرعان ما وجدت أجهزة الدولة المبررات القانونية اللازمة لتحويل تلك الإيرادات إلى خزينة الدولة، وأعلنت أنها ستخصص في قوانين الموازنة العامة السنوية ما يلزم لتغطية حصتها من الشراكة، وتعهدت الحكومة في حينها أنها لن تبخل على الجامعات. ولكن في واقع الأمر بخلت الحكومة على الجامعات وقترت عليها تقتيرا شديدا رغم الاستغاثات المتكررة. لقد تآكلت تلك الشراكة منذ ذلك التاريخ بدليل أن ما تم تخصيصه لموازنات الجامعات عبر تلك السنوات بدأ بخمسين مليون دينار منذ ذلك الحين (منتصف التسعينيات) وبقي يتراوح حول ذلك الرقم لغاية الآن، أي بعد ما يقرب من عقدين ونصف، في حين أن عدد الجامعات وعدد الطلبة تضاعف عدة مرات.
لقد ساهمت سياسة التشارك بين الطالب وقاعدة واسعة من دافعي الضرائب والرسوم الجمركية في تنمية وتطوير التعليم العالي الأردني إلى أن أصبح في زمن قياسي في مقدمة نظرائه في سائر الدول العربية. ولكن ومع شديد الأسف بدأ التراجع منذ أن انفرط عقد الشراكة، ولا يزال التراجع مستمرا. فأمام تصاعد أعداد الطلبة والتوسع الأفقي في عدد الجامعات وطاقاتها الاستيعابية، استحدثت الجامعات ما صار يعرف بالبرنامج الموازي والبرنامج الدولي برسوم عالية لتغطية نفقات ذلك التوسع. وكما رأينا في الحلقة الأولى من هذه المقالات، شكلت رسوم البرامج العادية 31% من مجموع الرسوم التي دفعها الطلبة في الجامعات الحكومية في عام 2016، بينما شكلت رسوم البرامج المستحدثة (الموازي والدولي) 69%. وكذلك أصبحت مساهمة الخزينة في تغطية كلفة العملية التعليمية سالبة ولكن بطريقة مقـَنـَّعة يحسبها غير المطلع وغير المتخصص أنها مساهمة سخية. وللتذكير بما ورد في الحلقة الأولى فإن كامل العبء التمويلي للعملية التعليمية في الجامعات الحكومية أصبح على كاهل القطاع الأهلي (أي الطلبة)، بل وأصبحت الخزينة شريكة في إيرادات الجامعات نقديا وعينيا كما هو مبين تاليا لعام 2016:
إنفاق الجامعات الرسمية على العملية التعليمية 462 مليون دينار
مساهمة الخزينة في كلفة العملية التعليمية 54 مليون دينار
عوائد الخزينة النقدية والعينية من قطاع التعليم العالي 91 مليون دينار
وقد اشتملت عوائد الخزينة على 13 مليون دينار ضرائب على الجامعات الخاصة، 2 مليون دينار ونيف مستردة من إيرادات هيئة اعتماد الجامعات الأردنية وضمان جودتها و56 مليون دينار فجوة الرسوم على طلبة المكرمات والمنح الحكومية و20 مليون دينار إعفاءات بند المعلولية الجسيمة. فما تعطيه الحكومة بيدها اليمنى تسترده بالصاع الوافي باليد اليسرى وتسترد فوقه ما قيمته النقدية والعينية 37 مليون دينار.
وهنا نسأل ماهي السياسات التي تستبطنها هذه الأرقام بالإضافة إلى إلغاء سياسة المشاركة والاستحواذ على إيرادات الضريبة التي كانت مخصصة للجامعات والتي تكتمت الحكومة على مقدارها، والتي، كما أسر أحد وزراء المالية السابقين، قاربت 300 مليون دينار عام 2008 قبيل إعادة هيكلة الضرائب؟ وما هي آثار هذه السياسات؟
مآلات السياسات الحالية وتبعاتها.
أولا: يُـشكل إلقاء كامل عبء تمويل التعليم العالي على كاهل القطاع الأهلي حالة فريدة من نوعها في العالم غير مسبوقة لا في الدول المتقدمة ولا في الدول النامية، ناهيك عن العوائد النقدية والعينية التي تجنيها الخزينة من هذا القطاع. وإذا تذكرنا أن الاقتصاد الأردني يصنف بأنه أقرب إلى الاقتصاد الريعي منه إلى الاقتصاد الانتاجي، فإن الحالة تصبح مستهجنة أكثر، وتحتاج إلى تبرير وتفسير. وكأنما المخطط الاقتصادي الذي روج لهذه السياسة ونجح في إدامة تطبيقها عبر عقدين ونصف كان يكفر عن ريعية العديد من القطاعات الاقتصادية الأخرى بالإمعان في الجور على القطاع الأهلي في مجال التعليم العالي.
ثانيا: إن إلقاء كامل العبء التمويلي على كاهل القطاع الأهلي هو بمثابة ضريبة انكماشية أو تنازلية (regressive tax) جائرة تضاف إلى الضرائب الإنكماشية الأخرى، وهي بهذه الصفة مخالفة لمقاصد الدستور وأحكامه حيث جاء في نص المادة 111 « وعلى الحكومة أن تأخذ في فرض الضرائب بمبدأ التكليف التصاعدي مع تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية وأن لا تتجاوز مقدرة المكلفين على الأداء وحاجة الدولة إلى المال.»
ثالثا: بلغ المعدل المرجح للرسوم الجامعية في البرنامج العادي لكل التخصصات وكل الجامعات الحكومية حوالي 1,067 دينار، وهذه كلفة تعجز عنها 78% من الأسر لتعليم واحد من أبنائها (وعددهم الافتراضي إحصائيا 3.2) حسب نتائج مسح الدخل الأسري لعام 2015 إلا في حالتين: إن أنفقت الشرائح العليا من تلك الأسر أكثر من 20% من دخلها على هذا الباب، أو إن سجلت أبناءها بتخصصات ذات رسوم منخفضة. فالحالة الأولى ترهق الأسر في الشرائح الميئينية العليا من تلك الأسر، وتحجب التعليم العالي عن الأسر في الشرائح الدنيا منها، أما الحالة الثانية فإن التخصصات ذات الرسوم المنخفضة هي التخصصات التي يعاني خريجوها من بطالة مرتفعة مزمنة. أي أن التعليم العالي قد فقد دوره المجتمعي كرافعة اقتصادية في الحراك الاجتماعي العمودي الذي ينتشل الشباب من جيوب الفقر، وأصبح الفقر لا يورث إلا فقرا وأصبح التعليم العالي نخبويا يتيسَّر للموسِر ويتعَسَّر للمُعسِر.
ويبدو أن هذا الأمر لم يكن غائبا كليا عن بال المخطط، ففي محاولة لتلافي الإحباط الدفين لدى الطلبة المعسرين، أنشأت الوزارة صندوق الطالب المحتاج لتوفير تمويل للطلبة الذين يمتلكون القدرة الأكاديمية والتفوق الذهني ويعانون من ضيق الحال. وقد ساعد الصندوق في تخفيف الإحباط ولكن بقدر محدود رغم تصريحات المسؤولين بالوزارة أن الصندوق استجاب لكل من تقدم بطلب. ففي عام 2016 على سبيل المثال استفاد من منح وقروض الصندوق 36 ألف طالب من أصل مجموع الملتحقين بالبرامج العادية (135 ألف طالب).وإذا تذكرنا أن 34 ألف طالب يستفيدون من المكرمات، ليصبح مجموع الفئتين 70 ألفا، فإنه يتبقى 65 ألف طالب خارج هاتين المظلتين، بعضهم موسر ولكن جلهم معسر. والمعسرون منهم أجبروا على الالتحاق بالبرامج ذات الرسوم المنخفضة وسيتخرجون وينضمون إلى طوابير الجامعيين العاطلين عن العمل. أما لماذا لم يتقدموا بطلبات للقروض ليتمكنوا من الالتحاق بالبرامج الواعدة، فلأنهم لم يستطيعوا تقديم الكفالات المطلوبة لها. أي أن الصندوق استطاع أن يوفر حلا فقط لثلث الطلبة غير المشمولين بالمكرمات، وأن مشكلة المعسرين لا تزال قائمة، وأن التعليم الجامعي لا يزال يتجه نحو النخبوية. ومع ذلك يبقى عمل الصندوق مشكورا رغم أن برامجه وسياساته تحتاج إلى مراجعة وتقييم.
رابعا: إن إلقاء عبء تمويل التعليم العالي كاملا على أولياء أمور الطلبة كما هو حاصل الآن يفرض سقفا متدنيا حكما على إيراداته بسبب محدودية إمكانات المكلفين. فطالما أن إيرادات الجامعات محصورة في مصدرين رئيسيين، رسوم الطلبة وتحويلات الخزينة، وطالما أن تحويلات الخزينة لا تغطي بدلات المنافع العينية والنقدية التي تجنيها الحكومة من هذا القطاع، وطالما أن الرسوم بوضعها الحالي ترهق أولياء الأمور، فهذا كله يعني أننا سلكنا طريقا مسدودا، وأنه لا سبيل لزيادة إيرادات الجامعات زيادة ذات أثر على نوعية وجودة برامجها إلا بالتوسع في البرامج الموازية والدولية. ولكن تراكمات السنين قد استنفذت هذا الخيار وجعلت من التوسع فيه سرابا لا أكثر، حيث أن رسوم البرامج العادية في الجامعات الحكومية لعام 2016 شكلت فقط 31% من المجموع. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فإن التوسع في البرامج الدولية واستقطاب طلبة غير أردنيين يتطلب برامج أكاديمية ذات جودة عالية وأعضاء هيئة تدريس ذوي كفاءات متميزة، وكل ذلك يتطلب توسعا في الإنفاق، وهو توسع غير قابل للتحقيق للأسباب التي تقدم ذكرها.
وإذا دققنا في نوايا الحكومة المستقبلية من خلال ما يدعى بالمخصصات التأشيرية للسنوات القادمة كما جاء في جداول قانون موازنة 2018 نجد أن توجه الحكومة هو نحو التقليص المتفاقم في مخصصات التعليم العالي وليس العكس، مما ينذر بما هو أدهى وأمر إن لم نستدرك الأمر.
خامسا: ومما يؤشر إلى الارتباك في سياسات التعليم العالي في مجال تمويله هو أننا نتبنى سياسات متناقضة ثم نبرع في إيجاد المبررات لكل منها منفردة ولكننا نحجم عن تقييمها مجتمعة للتأكد من تناسقها، ومنها على سبيل المثال أن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تجاوزت صلاحياتها المنصوص عليها في القانون وهي وضع أسس القبول فقط إلى تحديد العدد الذي تفرض قبوله على الجامعات. وقد انطلت هذه السياسة على عدد من الإدارات الجامعية فأخذوا يتسابقون على زيادة القبول طمعا في زيادة الإيرادات من الرسوم غير آبهين بمتطلبات هيئة الاعتماد من حيث نسبة عدد الطلبة إلى المدرسين. لقد كان ذلك سهلا عندما تمتعت الجامعات الحكومية بالأعفاء من تطبيق معايير الاعتماد، إلا أن فترة الإعفاء قد انتهت، وهيئة الاعتماد مخولة بقوة القانون بتطبيق المعايير على كل الجامعات. وبالرغم من كل ذلك، نفذت الوزارة قرارا إستراتيجيا غير معلن في السنوات الأخيرة أفضى إلى قبول كل من حصل على معدل 65 فما فوق في الجامعات الحكومية، ثم سمحت لجامعات الأطراف بقبول الحاصلين على معدل 60 فما فوق، بغض النظر عن الطاقة الاستيعابية للجامعات، وبغض النظر عن متطلبات هيئة الاعتماد، وبغض النظر عن تبعاته المالية. يحدث هذا رغم أن النصوص القانونية في قانون الجامعات لعام 2009 وفي القانون الجديد لعام 2018 تؤكد صراحة أن صلاحية تحديد عدد الطلبة المقبولين هو من اختصاص الجامعة فقط. ما يهمنا هنا أن استمرار الارتباك في تطبيق سياسات تمويلية تتناقض مع سياسات القبول، مهما كان بعضها شعبويا، سوف يؤدي لا محالة إلى تفاقم العجوزات المالية في الجامعات الحكومية وإلى تراجع مستوى التعليم فيها، وعلينا تدارك الأمر.
سادسا: لقد استبشرنا خيرا عندما أمر جلالة الملك بتشكيل لجنة وطنية لوضع خطة إستراتيجية لتطوير الموارد البشرية في كل مستوياتها، ومنها طبعا التعليم العالي. لقد أنجزت الخطة وتم اعتمادها قبل سنتين، ونحن الآن مشغولون بتطبيقها. ولست معنيا هنا بتقييم تلك الخطة إلا بما يتعلق بموضوع التعليم العالي في جانب تمويله. ولا بد لي ابتداء من التأكيد على أمرين: الأول أن كل خطة توضع يجب أن تخضع للتقييم الدوري الذي قد يقود إلى تعديل أو إضافة، علما بأن منهجية التقييم والتعديل الدوري هي من صميم مبادئ إدارة الجودة المتكاملة (total quality management)، والثاني أن جلالة الملك طلب في ورقته النقاشية السابعة أن نتحاور في مواضيع كثيرة وعلى رأسها التعليم. أسوق هذا كرد استباقي على من سيتذرع بأن لدينا خطة وأنه يجب علينا أن نطبقها أولا وأن نلتزم بما جاء فيها وأن لا نشكك في مقتضياتها. وأعود إلى الخطة لأقول أنها قد أغفلت الجانب التمويلي بشكل مستغرب، واختزلت الأمر كله في نقاش عقيم حول سبل إلغاء البرامج الموازية. ويحق لنا أن نتساءل في هذا المقام هل كان إغفال ركن محوري بحجم الركن التمويلي سهوا، أم كان عن رؤية وتروي؟ لا أظنه كان سهوا لأن كاتب هذه السطور ألح على بحثها دون نتيجة. ومهما كانت الدوافع والأسباب، فإنه لا بد لنا من مراجعة تقييمية نعاين فيها برامج الخطة التي نفذت والتي لم تنفذ، ونستدرك فيها الثغرات المشرعة التي لم تعالجها تلك الخطة، وعلى رأسها تمويل التعليم العالي، ونستقصي فيها مدى نجاح ما نفذ منها وأسباب تعثر ما لم ينفذ.
وخلاصة القول فإن الجامعات الحكومية (باستثناء اثنتين) تمر في مأزق مالي يتعمق سنة بعد سنة، وإنها قد وصلت إلى حالة غير قابلة للاستمرار، وكل ذلك في وقت لا نملك فيه ترف التغاضي عن مآلات سياسات تمويل التعليم العالي الحاليه أو التظاهر بأن أولياء الأمور قد أذعنوا لهذه السياسات فلسنا بحاجة لتعديلها. نحن بحاجة إلى مراجعة موضوعية لجميع سياسات التعليم العالي التمويلية، المعلنة وغير المعلنة، وعلينا أن نحسم أمرنا في ما أغفلته الخطة الوطنية لتطوير الموارد البشرية وهو كيف ننظر إلى التعليم العالي قبل أن نضع الخطط لتطويره: فهل هو خدمة اجتماعية تسديها الحكومة كما تسدي خدمة التعليم العام (المراحل التأسيسية والابتدائية والثانوية)، أم هو استثمار وطني نحن في أمس الحاجة إليه لكي يذكي عجلة التنمية على جميع الصعد. وهذا ما سأتناوله في الحلقة الثالثة من هذه السلسلة.