18/10/2017
اللواء الركن محمود ذوقان المطر
لقد مرت على الأردن ظروف سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية قاسية منذ بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة نتيجة أحداث وتفاعلات ما يسمى بالربيع العربي، والتي ما لبثت أن تطورات في بعض البلدان العربية الى حروب أهلية طاحنة، أهلكت الحرث والنسل، وأحدثت تحولات سياسية واستراتيجية جديدة خاصة في سوريا والعراق وهما الدول الأقرب الى جغرافية الأردن. ورغم صعوبة هذه الأوضاع فقط ستطاع الأردن وبقيادتة الحكيمة أن يتجاوز المرحلة ويحافظ على قدر كبير من إستقراره وأمنه، إلا أنْ قسوة الجغرافيا عليه وموقعه الجيواستراتيجي وضعه امام تأثيرات غير مرغوبة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وأصبحت خياراتة الاستراتيجية المطروحة صعبة المنال خاصة مع وجود حالة من الغموض السياسي التي رافقت جميع الأحداث الجارية في الشرق الأوسط والتي مردها الى عوامل عدة أولها صعوبة التنبؤ بمسار الأحداث نتيجة التغير المستمر والسريع بمسارات الصراع والقوة المتناقضة لكل طرف، وثانيها مصالح ومطامع القوة الكبرى وبالتوازي مع مصالح القوى الأقليمية ذات النفوذ في المنطقة وثالثها طبيعة ومستوى علاقات القوى الكبرى في دول اقليم الشرق الأوسط والتي تختلف من دولة الى دولة.
وعليه ووسط هذه التفاعلات والأحداث المحلية والأقليمية والدولية كان التأثير الأكبر على الأردن هو في مستوى تراجع الأداء الاقتصادي بدرجة ملحوظة والذي كان له التأثير المباشر على مستوى حياة المواطنين ولأسباب متعددة أهمها تراجع مستوى التبادل التجاري خاصة مع دول الجوار حتى أصبح مع بعض الدول يصل الى درجة الصفرية، ناهيك عن التكاليف الأمنية الباهظة بغية حماية الحدود ومكافحة الإرهاب والتطرف، ولا يغيب عن البال ايضا الزيادة الكبيرة والمفاجئة لأعداد اللاجئين والمهجرين والذي ترتبت علية نفقات إضافية تعادل ربع الموازنة وبالتوازي مع ارتفاع الضغط الهائل على البنى التحتية خاصة التعليم والمياة والصحة، ومع أن الأسباب المذكورة هي أسباب جوهرية إلا أنَ العامل الرئيس يعود الى تقصير دول العالم الغنية والتي تتمتع بموارد ضخمة بدعم الأردن في معاناته في موضوع اللاجئين وحماية الحدود خلال طول فترة الأزمة و حتى وقتنا الحاضر.
• رغم هذا الواقع السياسي المرير فإن جميع الشواهد والمؤشرات تدل على أنّ هناك تطورا سياسياً و اجتماعياً قد حدث ويشير بوضوح الى ولادة مرحلة جديدة للدولة الأردنية بدأت تتفاعل بصورة أكثر إيجابية من السابق الأمر الذي يستحق منا إجراء تقييم ومراجعة إستراتيجية شاملة تحرك جمودنا الساكن وتذيب باقي كرة الجليد بين أطياف وفئات الشعب الأردني من شتى الاصول والمنابت، وحتى نكون أكثر دقة وواقعية فإنه من الواجب علينا وبعد هذه الأحداث الهائلة في الشرق الأوسط أن نطرح ثلاثة أسئلة كبيرة ومهمة أولها:
ما هي المؤشرات التي حصلت في الاردن بعد وخلال أحداث الربيع العربي والتي تشير بوضوح الى بداية مرحلة جديدة في الدولة الأردنية؟ وثانيها ما الذي يجب علينا فعله لدخول هذه المرحلة حتى تتحقق دولة المؤسسات والقانون الحقيقية؟ وثالثها كيف يجب علينا كأردنيين من شتى الاصول والمنابت ان نتعامل مع قوة الشد العكسي التي تحاول خلق العثرات والحواجز أمام تطور هذا المجتمع؟.
• إن إجابتنا على السؤال الأول والذي يتمحور حول رصد المؤشرات والتفاعلات الجارية بين أبناء المجتمع تبدأ بالمؤشر السياسي والذي أصبح أكثر وضوحا ونضجا من السابق حيث أزداد الالتفاف والتوحد خلف القيادة السياسية وهذا ليس لكونها قيادة سياسية ذات شرعية دينية واخلاقية فقط ولكن لأنها استطاعت الحفاظ على مكتسبات الأردنيين في ظروف إستثنائية ارتفعت فيها وتيرة الأحداث والخلافات السياسية في منطقة الأقليم والعالم، وهذا الأمر قد تناسب طردياً مع تناقص الفروق والاختلإفات السياسية بين فئات الشعب الأردني والتي قد زالت الى حد بعيد وفي معظم القضايا الأساسية التي تهم الوطن، أما الثاني فهو المؤشر الأمني السائد والذي أصبح هاجس جميع الأردنيين فلا نجد اليوم من يراهن بسوء على أمن الوطن والكل يسعى لأن يكون أميناً في سربه معافى في بدنه مطمئناً على عرضه وعياله، فلا يرغب الأردنيون اليوم أن يروا حالة فشل وهدم جديدة تضاف الى سجل دول الربيع العربي، أما الثالث فهو المؤشر الاقتصادي الذي له أهمية كبيرة تمس حياة الناس ورغم صعوبة الواقع فيه إلا أنّ ترابط المصالح الاقتصادية بين فئات الشعب لا يزال قوياً ويرتبط ارتباطاً وثيقاً مع المؤشر الأمني فلا أحد اليوم يرغب أو حتى يفكر في خراب المؤسسات الأردنية التي يعتمد عليها الوطن وهم الآن أكثر حرصاً عليه ويعتبر المساس فيه أمراً كارثياً ومروعاً خاصة وأن شريحة كبيرة منهم قد جربت التشرد وخراب الديار وعملت عقوداً طويلة وبذلت الجهد والمال والعرق حتى وصلت الى هذا المستوى الرائع من القدرة والكفاءة والخبرة، ولهذا فان تشابك وشدة ارتباط المصالح والمنافع الاقتصادية في الظرف الراهن غير خاضع للمساومة والعبث او النيل من هذه المكتسبات، فواقع اليوم يقول ان اغنياء العراق لم تنفعهم اموالهم ولم تحم لهم بيوتهم واعراضهم، وهذه الاموال والمؤسسات الضخمه التي امتلكها أثرياء دمشق وحلب لم تسلم من النهب والسلب تارة لصالح المقاومة وتارة أخرى من قبل عصابات التطرف والارهاب فأصبحوا فقراء بعد غنى وفي عوز بعد وفرة، أما المؤشر الاجتماعي والأخير فهو مؤشر قديم جديد كلما تقدم الزمن زادت فيه لحمة الوطن وقويت فيه روابطهم الاجتماعية والتي تراكمت خلال عقود الزمن المتتالية وما فترة الربيع العربي الا زيادة عليه، لقد اختلطت دماء الأردنيين ووصلت الى درجة كبيره من التعقيد والتشابك حتى انه قارب أن يكون جسماً واحداً يستحيل على اي قوة في الارض أن تفصله مهما فعلت أو افتعلت.
• أما جوابنا على السؤال الثاني وهو الأكثر اهمية فان القول فيه أصبح أكثر وضوحا بعد ما تجلت لنا مؤشرات الوحدة والاندماج، هنا يجب ان نعي باننا على ابواب ولادة مرحلة جديدة في تاريخ الأردن تعي فيها القيادات الاردنية كيفية العبور لدولة المؤسسات والقانون الحقيقية مستغلة هذا الوضع الجديد الذي نعيشه خاصة بوجود قيادة سياسية شابة مؤهلة عليها إجماع شعبي منقطع النظير وتتمتع بسمعة اقليمية ودولية تفوق التصور وتقف على مسافة واحدة من جميع أطياف الشعب الأردني من شتى الأصول والمنابت، نحن نحتاج اليوم الى قيادات معتدلة واعيه تدرك أهمية المرحلة وتنظر الى خارطة الأردن الشاملة ولا تبقى حبيسة الجغرافيا أو الديمغرافيا، قيادات تترفع عن الغرق في وحل المحسوبية والتنفيع للأقارب والأصدقاء وأبناء ذوي القربى، قيادات تؤمن بمكاسب الاردنيين جميعاً مهما كانت اُصولهم وأعراقهم، قيادات لديها القدرة والكفاءة والمعرفة بقراءة المستقبل الموعود بحرفية ومهنية ودقة وتستطيع اتخاذ قرارات سياسية واجتماعية واقتصادية جريئة وشجاعة دون تحيز أو تمييز مؤمنة أن الوطن للجميع، قيادات تكون أول أولوياتها فتح جميع مؤسسات الدولة الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية العامة والخاصة للجميع دون إستثناء وعلى اعتبار أنها حقوق مكتسبة لكل من يعيش على تراب هذا الوطن، شعارنا فيه هو المواطنة الصالحة والايمان بالهوية التي توفر له العيش بحرية وكرامة، ولا ضير عند اي احد ان يبقى الفرد معتزاً ووفيا للأرض والعرق التي انحدر منها أجدادة، لقد سئم الأردنيون جميعاً البقاء في هذا الوعاء الضيق من التحيز والتفرقة والتي أصبحت بدون معنى ولا عنوان، لقد جاء الوقت الذي يجب أن نفتح فيه قلوبنا للخير واستيعاب الاخر ولنا من التاريخ الدروس والعبر فهذه الولايات المتحده الأمريكية يقطنها بشر من كل اصقاع الأرض مروا بحروب أهلية طاحنة أكلت الاخضر واليابس أدركوا بعدها أن ذلك لا يجدي نفعاً واتحدوا تحت علم واحد وهوية وطنية واحدة أستطاعوا في وقت قصير من عمر الزمن أن يكونوا القوة الأولى في العالم، وهذه ايضاً جنوب افريقيا وبعد أن تعالت أصوات البغضاء والعنصرية واقتتل الناس الى حد الاشباع ومات منهم خلق كثير أدركوا بعدها أن مصيرهم واحد ولا بد لهم أن يعيشوا في وطن واحد وتحت هوية وطنية واحدة أستطاعوا من خلالها ان يبنوا دولةً تعتبر الآن من الدول المصنعة على مستوى العالم وتحتل مركز الصدارة في قارة افريقيا، وهنا وبعد استيعاب الأمثلة من تاريخ الامم يجب ان نسأل أنفسنا سؤالاً يفوق ثمنه كل شيء (اليس نحن أبناء الدين واللغة والعرق الواحد أجدر وأقوى منهم في بناء الأوطان وزيادة قوتها ومنعتها؟) فقط هي الارادة والعزم جل ما نحتاج اليه خاصة في هذا الظرف الراهن والنيران تشتعل حولنا في كل مكان.
• ان هذا الطرح سيصطدم بصعوبات جمة خاصة من قوى الشد العكسي والتي ما كانت يوما مع الوطن ويصطادون في الماء الآسن ليحققوا أجندتهم ومصالحهم الخاصة، ولا شك هنا أن أول وتر سليعبون عليه هو قضية فلسطين وعلى اعتبار أن ذلك سيؤخر من أولوياتها عند الناس متجاهلين أن هذة القضية هي قضية عامة تخص جميع أبناء المسلمين وهي جزء من عقيدة كل مسلم لا يمكن التخلي عنها، فالمسلم الذي لا تكون فلسطين في وجدانه وعقله ومعتقداته يكون مشكوك في خلقه ومبادئه، اننا اليوم في صدد علاج حالة خاصة لدولة هي جارة لفلسطين نريدها أن تكون متحدة وقوية لان قوتها واتحادها سيكون أولاً في خدمة فلسطين وأهلها وقد أثبتت الأيام الخوالي صدق نوايا أبناء هذا الوطن حتى لو عبث العابثون وفعلوا افعال الشياطين، كيف لمسلم أن ينسى القدس والأقصى وهو يتلوها قرأناً عربياً مجيداً تنزل من فوق سبع سموات، لقد اّن الاوان لنا الخروج الى النور بدلا من اللهث وراء الذين يفتعلون من شغب الملاعب قضية يقضون فيها أوقات فراغهم أو يصنفون هذا التنوع الوطني الرائع حسب قوائم الطعام وكما يحلو لهم بسبيل الدعابة والفكاهة.
• الكثير منا ستتولد لديه حالة من العصف الفكري حول ( لماذا هذا الطرح الان والى أين سيقودنا في النهاية)، وهنا يجب أن نجيب على هذا السؤال بكل صراحة وموضوعية معتمدين على ما ناقشناه فيما سلف، ان الأجابة على الشطر الأول من السؤال حول أهمية التوقيت له علاقة مباشرة بجانبين أولهما يتعلق بمدى الترابط والتلاحم الاجتماعي والاقتصادي الذي تحقق خلال عقود طويلة من الزمن وثانيهما نظرة الاردنيين لما جرى لشعوب المنطقة من حولهم نتيجة اختلافهم وتشتتهم والتي ادت الى هلاك الأوطان وانتهاء سيادتها الوطنية وأصبحت شعوبها مرهونة لارادة الأجنبي والغريب يفعل بها ما يشاء، أما فيما يتعلق بالمستقبل الموعود أو النهاية المحسوبة فان له نتائج إستراتيجية عظيمة أهمها تحقيق العدالة الإجتماعية بين أفراد المجتمع وإسكات الأصوات التي تتحدث عن الحقوق المنقوصة أو تستغل القضايا العامة محاولة الرقص على أحبال الوحدة الوطنية بحجة المصلحة العامة للوطن، وهناك ايضا نتيجة قد تكون الأكثر أهمية وهي قدرة صاحب القرار على اختيار نخبة من القادة والكفاءات بعيداً عن وعاء الجغرافيا والديمغرافيا تستطيع ادارة موارد الوطن بحرفية ومهنية عالية وترسم معالم المستقبل حسب آليات التخطيط الاستراتيجي السليم، وخلاصة القول هنا تكمن في بروز النتيجة الاستراتيجة الحاسمة وهي ايقاف التخصص في الحقول اي بمعني مزج نظرية الأمن بالاقتصاد بحيث تصبح حقلاً واحداً لجميع الاردنيين من شتى الأصول والمنابت حتى يعم الخير ويزدهر المجتمع.
• وفي الختام فإنني لا أريد اجراً وليس لي مطمع لا في أرض صرارة ولا في عين كرارة، حبي لوطني هو ما يعنيني، هذا الوطن الذي من نواة الثورة العربية الكبرى بزغ وظهر، وبين الانجاز والاعجاز تحققت أهدافه وطموحاته، ومن قسوة الجغرافيا صنع الاردنيون وقيادتهم وطناً هو الدنيا بأعيننا.